بقلم المهندس/ طارق بدراوى
حي عابدين أحد أكبر أحياء محافظة القاهرة وهو يعد من أهم الأحياء التي تتميز بالطابع المعماري الفريد الذي يجمع بين الأصالة والمعاصرة وتتمركز فيه العديد من الوزارات والهيئات الحكومية والدبلوماسية بالإضافة إلى العديد من الشركات والأمانات العامة ويرجع تاريخ الحي إلى عهد الخديوي إسماعيل عندما جاء إلى مصر حاكما عام 1863م وكان يحلم بعاصمة عصرية لمصر فكان يريد تنظيم القاهرة لتكون باريس الشرق وأصدر أوامره لوزير أشغاله على باشا مبارك وتم إزالة منشآت ومنازل ودروب وأزقة كثيرة وذلك لأنه عندما تم تنظيم منطقة عابدين وإعادة تخطيطها تم إزالة بعض الجوامع وبعض الحارات والبيوت والمنازل ومنها جامع الزير المعلق الذي أنشأه الأمير عبد الرحمن كتخدا وجامع الكريدى وزاوية الشيخ شحاتة وشارع التميمى وزقاق الصيادين وعطفة العلوة وغيرها وكذلك تم فتح شوارع جديدة متسعة منها شارع عبد العزيز وشارع إبراهيم باشا سابقا الجمهورية حاليا وشارع عماد الدين وشارع نوبار باشا وشارع رشدى وشارع الشيخ ريحان وغيرها كما تم إقامة ميدان فسيح الأرجاء يتوسط الحي سمي ميدان عابدين وخطط لبناء قصر جديد ليكون مقرا جديدا وحديثا للحكم يطل علي هذا الميدان وذلك جعل من هذا الميدان مركز يتفرع منه عدة شوارع إلى ميدان الإسماعيلية سابقا التحرير الآن وميداني العتبة والأوبرا وأيضا ميدان السيدة زينب هذا وجدير بالذكر أن المنطقة كلها والقصر يعود تسميتهما بإسم عابدين نسبة إلي عابدين بك وهو أحد القادة العسكريين المتميزين في عهد محمد علي باشا وكان يمتلك قصرا صغيرا في مكان القصر الحالي وكان قد توفي إلي رحمة الله تعالي فإشتراه الخديوى إسماعيل من أرملته التي كانت لاتزال علي قيد الحياة وهدمه وضم إليه أراضي واسعة ثم بدأ في تشييد قصر عابدين العظيم …..
وفي واقع الأمر فإن منطقة عابدين والتي أصبحت قلب القاهرة الآن كانت عبارة عن مجموعة من البرك الراكدة منها بركة الفراعين وبركة السقايين وبركة الفواكة وبركة الناصرية ومجموعة من المستنقعات تتخللها سلسلة من الهضاب والكثبان الرملية والقلاع التي أقامتها قوات الإحتلال الفرنسي في زمن الحملة الفرنسية علي مصر التي بدأت عام 1798م وإنتهت عام 1801م وتمتد هذه المنشآت من منطقة السيدة زينب إلى شارع المبتديان فقام بتسوية تلك الهضاب والمرتفعات وردم البرك فأصبحت هذه المنطقة من أجمل مناطق القاهرة الحديثة ولذلك يعتبر الخديوي إسماعيل هو المنشئ الحقيقي لهذا الحي عندما فكر كما ذكرنا في بناء قصر للحكم في قلب عاصمته القاهرة بعد أن ظل قصر الحكم بالقلعة لقرون عديدة وليصبح القصر الذى قام بالفعل ببنائه والذى سمي قصر عابدين مقرا للحكم فقد كانت قلعة الجبل مقر الحكم طوال عهد الأيوبيين ثم المماليك ثم الحكم العثماني على مصر وحتى محمد على باشا ولكن عندما جاء الخديوى إسماعيل رأى أن هذا الوضع لا يتفق مع أحلامه بإنشاء عاصمة مصرية عصرية حديثة وكان هدفه أن يحيا بين ووسط شعبه الذى يحكمه ونجد أن موقع القصر على مشارف القاهرة الخديوية بالقرب من ميداني العتبة والإسماعيلية سابقا التحرير حاليا وبالقرب أيضا من حي جاردن سيتي وكان قد تم بناء قصر عابدين على غرار القصور الملكية الكبرى في أوروبا في فخامته وروعة بنائه وفي زخارفه والأثاث والتحف التي تم تزويده بها حتي أنه يعد واحدا من أفخم وأفخر القصور الملكية علي مستوى العالم ولايقل عن قصر باكينجهام في لندن أو قصر فرساى في باريس وتعد قاعة العرش به من أروع وافخم قاعات العرش علي مستوى العالم وقبل أن يبدأ بناء هذا القصر جعل رجاله يتصلون بكل من يملكون بيوتا في المنطقة المختارة ودفع لهم تعويضات مجزية وبدأ البناء الفعلي للقصر في أول عام 1863م وذلك هو العام الذي تولى فيه حكم مصر وإستمر البناء مدة 3 سنوات تقريبا حيث إنتهي عام 1872م وتكلفت عملية البناء حوالي 665 ألفا و570 جنيها وكانت مساحة القصر وحدائقه والميدان الفسيح امامه حوالي 9 أفدنة أى حوالي 40 ألف متر مربع تقريبا …..
ولم يكن حي عابدين مجرد مقرا للحكم بل أصبح دائرة للحكم حيث تجمعت حوله مقار النظارات في شارع الدواوين أي الوزارات كما تم تسميتها فيما بعد فتجد أنه في شارع الدواوين سابقا نوبار باشا حالياً مقر المصالح الحكومية والوزارات ومجلس الوزراء حيث نجد مقر إسماعيل باشا المفتش وزير المالية حينذاك والذى كان مقراً لمجلس الوزراء قبل أن يتحول إلى وزارة المالية ونجد أيضاً وزارة العدل والداخلية وغيرها.وأيضا نجد أن بيوت رجال السياسة بنيت حول القصر ومنها قصر سعد باشا زغلول وحسين باشا رشدي ومحمود باشا الفلكي وغيرهم وقامت أيضاً مقار الأحزاب الكبرى والقنصليات والسفارات وأقيمت حوله أيضا دور الصحف الكبرى منها روز اليوسف والبلاغ وعندما لم يتسع الحي لتلبية كل طلبات الجهات المتصلة بالحكم تم الاتجاه إلى الحي الجديد وهو جاردن سيتي وأصبح الحي مقرا لسكن كل من يعمل بالمصالح والوزارات حتى لا يتحمل أعباء المواصلات كما سكن بحي عابدين عدد كبير من الوافدين إلي مصر من أبناء بلاد السودان والنوبة …..
ويبلغ عدد سكان حي عابدين التقديري في بداية عام 2010م حوالي 75 ألف نسمة والمساحة الكلية للحي حوالي 6.6 كم2 والمساحة المأهولة حوالي 2.22 كم2 وبخصوص الحدود الإدارية للحي نجد أنه يحدهخ من جهة الشرق شارع الظاهر وشارع الفجالة وشارع كلوت بك وميدان الأوبرا وشارع الجمهورية وشارع شريف باشا وشارع بور سعيد ومن جهة الغرب يحده شارع القصر العيني وشارع طلعت حرب باشا وجزء من شارع 26 يوليو وشارع الجلاء وشارع الترعة البولاقية وشارع شنن وشارع المنصوري ومن جهة الشمال شارع رمسيس وشارع السبتية ومن جهة الجنوب شارع إسماعيل أبو جبل وسويقة السباعين وشارع مجلس الأمة …..
وقد تطور الأمر في حي عابدين مع مرور الزمن وخاصة بعد ثورة 23 يوليو عام 1952م حيث تغيرت أسماء الشوارع والميادين التي تقع داخل حدود الحي وكانت من معالمه فأصبح ميدان عابدين يحمل إسم ميدان الجمهورية وتحول شارع إبراهيم باشا إلي شارع الجمهورية وشارع عماد الدين أصبح شارع محمد فريد وشارع دار النيابة أصبح شارع مجلس النواب ثم مجلس الشعب كما كان حول مبني البرلمان عدة وزارات منها ماتم هدمه أونقله إلي مكان آخر فنجد وزارة الشئون الاجتماعية التي تم هدمها لإفساح مكان لمترو الأنفاق ووزارة الأشغال تم نقلها إلى منطقة إمبابة لإفساح مكان لمجلس الشورى قبل إلغائه بموجب دستور عام 2014م ونجد أيضاً العديد من الوزارات ماتزال موجودة فينطاق الحي مثل وزارات الداخلية والعدل والمالية والإتصالات والمواصلات والتعليم والصحة والتجارة وغيرها وتحول شارع الأوبرا إلى شارع التحرير ومدرسة القضاء الشرعي أصبح مكانها كلية الشريعة وكلية اللغة العربية وتحول شارع الدواوين إلى شارع نوبار باشا والشيخ حمزة إلى شارع هدى شعراوى وشارع جامع جركس إلي شارع صبري أبو علم ومن أبرز المعالم في هذه المنطقة محكمة عابدين وبعض المصالح الحيوية مثل مصلحة المناجم ومصلحة الخزانة وغيرها وأيضا بعض السفارات والقنصليات الخاصة بالدول الكبرى التي كانت تسعى لتكون بالقرب من مقر الحكم مثل سفارة تركيا ومفوضية النرويج كما نجد عدد كبير من المدارس الأجنبية مثل المدرسة الفرنسية ومدرسة الألمان الكاثوليك والكلية الأمريكية التي تحولت إلى الجامعة الأمريكية الآن …..
وقد شهد قصر عابدين بعد ذلك مراسم تولي الذين حكموا مصر بعد الخديوى إسماعيل وتلقيهم التهاني بتلك المناسبة وهم الخديوى توفيق ثم الخديوى عباس حلمي الثاني ثم السلطان حسين كامل والذى توفي وشيعت جنازته منه في شهر أكتوبر عام 1917م ثم الملك فؤاد الأول واخيرا الملك فاروق كما شهد كل من ميدان وقصر عابدين عدة أحداث تاريخية هامة منها عندما قام أحمد عرابي باشا بمظاهرته الشهيرة في يوم 9 سبتمبر عام 1881م وتوجه بها نحو قصر عابدين حيث خرج له الخديوى توفيق لمقابلته امام باب القصر وكان من مطالبه عزل رياض باشا رئيس النظار حينذاك وتشكيل مجلس للنواب وزيادة عدد الجيش إلى 18 ألف جندي فبادر الخديوي توفيق بعزل الوزارة وكلف شريف باشا بتشكيل وزارة جديدة فكون وزارة وطنية في يوم 14 سبتمبر عام 1881م فبدأ الإستعداد لإجراء إنتخابات مجلس النواب وشرع شريف باشا في وضع دستور للبلاد يتضمن توسيع إختصاصات مجلس النواب وجعل الوزارة مسؤولة أمامه وغير ذلك من المزايا عدا حق المجلس في مناقشة الميزانية حتى لا يؤدى ذلك لإحتجاج إنجلترا وفرنسا ويفتح الباب للتدخل الأجنبي …..
ومن الأحداث الهامة التي شهدها أيضا كل من ميدان وقصر عابدين أنه في مساء يوم 4 فبراير عام 1942م قامت القوات البريطانية بمحاصرة قصر عابدين وأجبر السفير البريطاني في القاهرة السير مايلز لامبسون فاروق الأول ملك مصر على التوقيع على قرار بإستدعاء زعيم حزب الوفد مصطفى النحاس باشا لتشكيل الحكومة بمفرده أو أن يتنازل عن العرش وكان ذلك في أثناء الحرب العالمية الثانية وكانت القوات الألمانية بقيادة إرفين رومل موجودة في العلمين غربي الإسكندرية وكان الموقف العسكري مشحونا وحافلا بالإحتمالات الخطيرة على مصر وكان موقف بريطانيا في الحرب في غاية الحرج بعد توالي الهزائم التي مني بها جيشها علي يد القوات الألمانية حتي تمكنت من الإنسحاب إلي العلمين لإعادة تجميع صفوفها وإستعادة كفائتها القتالية وكانت بريطانيا ترغب في تأمين جبهتها الداخلية في مصر عن طريق وجود وزارة شعبية قوية تستطيع أن تحكم قبضتها علي الموقف الداخلي فطلب السفير البريطاني من الملك فاروق تأليف وزارة تحرص علي الولاء لمعاهدة عام 1936م نصا وروحا وقادرة علي تنفيذها وتحظي بتأييد غالبية الرأي العام وأن يتم ذلك في موعد أقصاه بعد ظهر يوم 4 فبراير عام 1942م ولذلك قام الملك بإستدعاء قادة الأحزاب السياسية في محاولة لتشكيل وزارة قومية أو إئتلافية وكانوا جميعا عدا مصطفى النحاس باشا مؤيدين لفكرة الوزارة الإئتلافية برئاسته فهي تحول دون إنفراد حزب الوفد بالحكم خصوصا أن لهم أغلبية بالبرلمان إلا أنه كان من تقاليد حزب الوفد عدم الإشتراك في أى حكومة إئتلافية نظرا لضعف تلك الوزارات وإحتمال سقوطها في أى لحظة وهو التقليد الذى حافظ عليه الوفد بعد تجربته في تشكيل وزارة إئتلافية مع حزب الأحرار الدستوريين في بداية عام 1928م والتي سقطت سريعا نتيجة إنسحاب الوزراء الدستوريين منها نكاية في حزب الوفد لكي تسقط الوزارة الأمر الذى تحقق بالفعل ولما وجدت بريطانيا أن الوقت يضيع فطلبت من سفيرها في مصر السير مايلز لامبسون أن يلوح بإستخدام القوة أمام الملك وفي صباح يوم 4 فبراير 1942م طلب السفير مقابلة رئيس الديوان الملكي أحمد حسنين باشا وسلمه إنذارا موجه للملك هدده فيه بأنه إذا لم يعلم قبل الساعة السادسة مساء نفس اليوم أنه قد تم تكليف مصطفى النحاس باشا بتشكيل الحكومة فإنه يجب عليه أن يتحمل تبعات ما يحدث وكان السفير جادا في هذا الإنذار وكان يعد من يحتل العرش مكانه وهو ولي العهد الأمير محمد علي توفيق نجل الخديوى توفيق الذي ظل حلم إعتلائه للعرش يراوده لسنوات طويلة كما إنه كان أكبر أفراد أسرة محمد علي باشا سنا إلا أن زعيم حزب الوفد مصطفى النحاس باشا رفض الإنذار وعند مساء هذا اليوم 4 فبراير عام 1942م توجه السفير ومعه قائد القوات البريطانية في مصر الجنرال ستون ومعهما عدد من الضباط البريطانيين المسلحين وقاموا بمحاصرة ساحة قصر عابدين بالدبابات والجنود البريطانيين ودخل السير لامبسون والجنرال ستون إلى مكتب الملك وكان معه رئيس الديوان أحمد حسنين باشا ووضعا أمامه وثيقة تنازله عن العرش ويقول السير مايلز لامبسون إنه عندما وضع وثيقة التنازل أمام الملك تردد لثوان وإنه أحس للحظة أن الملك سوف يأخذ القلم ويوقع لكن رئيس الديوان الملكي أحمد حسنين باشا تدخل باللغة العربية وقال له شيءً ثم توقف الملك وطلب منه فرصة أخرى أخيرة ليستدعي مصطفى النحاس باشا على الفور وفي وجوده إذا أراد وأن يكلفه على مسمع منه بتشكيل الوزارة وسأله لامبسون إذا كان يفهم وبوضوح إنه يجب أن تكون الوزارة من إختيار النحاس باشا وحده فقال إنه يتفهم ذلك فقال له السير لامبسون إنه على استعداد لأن يعطيه فرصة أخيرة لأنه يريد أن يجنب مصر تعقيدات قد لا تكون سهلة في هذه الظروف الحرجة والألمان علي أبواب الإسكندرية والتي كانت تتعرض لغارات من يشنها عليها الطيران الإيطالي المتحالف مع الألمان ولكن عليه أن يدرك أن تصرفه لا بد أن يكون فوريا وسريعا فرد عليه الملك مرة أخرى إنه يستوعب إن ضرورات محافظته على عرشه وعلي شرفه وعلى مصلحة بلاده تقتضي أن يستدعي مصطفي النحاس باشا فورا ويكلفه بتشكيل الوزارة الأمر الذى نفذه الملك فاروق بالفعل …..